هل اصل المفاهيم الرياضية العقل ام التجربة؟
هل اصل المفاهيم الرياضية العقل ام التجربة؟
طرح المشكلة
لقد اتخذ الانسان لنفسه
مصادر متعددة وتعرف على مدى خبرته فنجده بذلك يتخذ اشكالية الفلسفة هذه الاخيرة التي شكلت
لنفسها اتجاهات عدة و حقيقة الفلسفة تعددة بتعدد الفلاسفة و التاريخ الفلسفي
يفيدنا بموضوعاته و الاهتمام بقضايا الانسان و البحث فيه من حيث اصله و طبيعته واذ
نجده دائم التامل في هذه الاخيرة ، و باعتباره كائن حي قد شهد حركة انتقال علمي
عبر العصور ، ومن خلال هذا التحول نجده قد استعمل مفهوم الرياضيات كمنطلق يسعى من
خلاله الى ادراك الحقيقة العلمية ، و الواقع ان الفلسفة تختلف باختلاف خصائص
التفكير الفلسفي ، وبما ان الرياضيات هي دراسة المقادير القابلة للقياس الكمي
المجرد فان الاختلاف بين الفلاسفة بات واضحا ،فنجد الكثير من الفلاسفة يعتقدون ان
طابعها التجريدي يفصلها عن الوافع الحسي و اخرون يرجعون مصدر الرياضيات الى العقل فهل مصدر الرياضيات او المفاهيم الرياضية العقل ام التجربة؟
محاولة حل المشكل:
عرض منطق الاطروحة :
تعتبر الرياضيات في حد
ذاتها هي علم نظري اخترعه العقل والمفاهيم الموجودة في الذهن ،فبقدر ما يتجه الفكر
للتجريد بقدر ما يكون رياضيا و صارما في مواجهة المشكلات التي تقف امامه ،و هذه
الاخيرة تتنوع بتنوع ميدان البحث ،فاذا نظرنا الى المخلوقات مثلا لوجدنا الانسان
متميز عنها بالعقل ، اذ انه الكائن الوحيد الممتلك لهذه الملكة و بالتالي فالعقل
هو المرشد الى فهم الحقائق اذ انجد العقلانيين يرو بان العقل قوة فطرية في الانسان
و هو اساس كل معرفة حقة ، وجميع المعارف تنشا من جملة المبادئ العقلية القبلية و
الضرورية في الانسان ، و يعتبر ابو العقلانيين ديكارت من
احسن ممثلي هذا الاتجاه ، فقد انفتحت مع هذا الاخير افاق امام الرياضيات و خلقت في
عالم المثل و تشيد ادراجا ذهنية عن الواقع الحسي ، فالمفاهيم الرياضية في راي
ديكارت العقل باعتبارها معالم فطرية وقد فجر عصره بمقولته الشهير "انا افكر اذن انا موجود" ويقول ايضا " الاعداد و الاشكال الرياضية ليست سوى افكار فطرية
" مثل فكرة الله و الكمال و فكرة اللامتناهي ،و لا يعد ديكارت الوحيد
في موقفه هذا بل تجد كذلك افلاطون فالمعرفة في رايه عبارة عن
مفاهيم اولية نابعة من العقل و موجودة فيه قبليا ،لان العقل حسب رايه كان يحيا في
عالم المثل الذي يدرك بواسطة العقل ، و هو العالم الذي يتميز بالثبات و المطلقية
حيث يقول "الرياضيات تجبر النفس على استخدام الذكاء
الخالص من لجل الحقيقة في ذاتها "
المناقشة :
ان ما جاء به انصار النظرية العقلية يمكن تصديقه ، فما دام الانسان يتميز
بالعقل بامكانه تمييز المفاهيم الرياضية ، و لكن لو كانت المفاهيم الرياضية قبلية
كما يرى العقلانيون لكانت واحدة لدى جميع الناس ،وقد حررت هذه النظرية الفكر
الرياضي فابعدته عن الواقع، فبالرغم من المفاهيم الرياضية المختلفة و بكل ما تتمتع به من تجريد الا انها
نسبية متغيرة فالكل اكبر من الجزء اصبح نسبيا
عرض نقيض الطروحة:
من خلال تحليلنا لما
جاء به انصار الاتجاه العقلاني و جدنا انهم بالغوا في ارتداد الالمفاهيم الرياضية
الى العقل ، فنجد انه ظهر اتجاه اخر ناقضه وهو الاتجاه الحسي التجريبي الذي راى ان
اصل المفاهيم الرياضية يعود الى التجربة الحسية و دليلهم في ذلك ان البدائيين
استلهموا مفاهيم يواسطة التجربة الحسية ، فلقد اوحت لهم الاشجار و الحياونات و
الجبال بفكرة الاعداد حتى قال بعض الفلاسفة " لاكتشاف
العدد لابد من اشياء تعد" ومن انصار هذا الاتجاه نجد الفيلسوف جون ستيوارت مل وهو يقول
"ان النقط و الخطوط و الدوائر التي يحملها كل واحد
في ذهنه هي مجرد نسخ من تلك التي عرفها في التجربة " كما نجد كذلك
الفيلسوف جون لوك الذي ذهب و كغيره من انصار هذا الاتجاه بالقول
"يولد العقل صفحة بيضاء و التجربة تنقش عليه ما تشاء"
فالطفل يولد خال من اي معارف قبلية و التجربة هي التي تعلمه و ترسخ له معلومات في
الذهن ، فالتجربة هي الاولى و السابقة عن العقل كما نجد بوانكاري
وهو يقول "ان لو لم يكن في الطبيعة اجسام صلبة لما و جد علم الهندسة "
حيث ربط معرفة الانسان بالاشكال الهندسية بالطبيعة فان غابت الطبيعة غابت المعارف
،و كذلك دافيد هيوم ايد هذا الراي حيث نجده يقول
"كل ما اعرفه قد استمدته من التجربة " فكل
معارف الانسان و المفاهيم الرياضية مرتبطة بتجربة الانسان و واقعه الحسي فناخذ على سبيل
المثال فكرة الدائرة جاءت من رؤية الانسان للشمس و القرص جاءت كنتيجة مشاهدة
الانسان للقمر .
مناقشة:
صحيح ما جاء به انصار
التجربة الحسية ان هناك مفاهيم رياضية تنبع من التجربة الحسية و لكن ما قيمة
التجربة في غياب عقل ينظمها ، و لما لم يستطع الحيوان بالرغم من قوة حواسه ان ينشا
الرياضيات ؟ ففي كثير من الاحيان تكون الحواس عاجزة عن بناء المعاني الرياضية فهي لا
تمدنا سوى بالانطباعات .
التركيب:
من خلال مناقشتنا و
تحليلنا لما جاء به انصار الاتجاه العقلاني من مثلييه "افلاطون ، ديكارت ، كانط" ولما جاء به انصار الاتجاه الحسي بممثلييه
"جون لوك ، جون ستيوارت مل،دافيد هيوم،بوانكاري"و
جدنا ان المفاهيم الرياضية حسية و عقلية ، فالرياضيات ليست قوالب عقلية جاهزة و لا
هي معطيات حسية كاملة ، كما انه لا يوجد عالم مثالي للمعالم الرياضية في غياب
العالم الخارجي ، و لا وجود للاشياء المحسوسة في غياب الوعي البانساني حيث يقول كانط " ان المفاهيم
الخالية من الحدوس عمياء و الحدوس الخالية من المفاهيم جوفاء "
حل المشكلة :
ان الرياضيات من ارقى
تجليات العقل و هي ترتد الى البساطة و الوضوح و الى تفاعل العقل و التجربة ، فيبقى
اصل المفاهيم الرياضية ذلك التداخل و التكامل الموجود بين العقل و التجربة ، حيث يقول الفيلسوف السويسري غونزيت " في كل بناء تجريدي يوجد راسب حدسي يستحيل محوه و ازالته ، و ليست هناك معرفة تجريبية خالصة و لا معرفة عقلية خالصة بل كل ما هناك ان احد الجانبين العقلي و التجريبي قد يطغى على الاخر دون ان يلغيه تماما"و يقول كذلك هيجل "كل ماهو عقلي واقعي و كل ماهو واقعي عقلي"..
تعليقات
إرسال تعليق